يقول الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي إنّ كُلّ شيء من الأكوان لا بدّ أن يكون استناده إلى حقائق إلهية؛ فكل علمٍ مدرجٌ في العلم الإلهي، ومنه تفرّعت العلوم كلُّها، وهي - أي العلوم الإلهية - منحصرة في أربع مراتب، وكل مرتبة تنقسم إلى أنواع معلومة محصورة عند العلماء: العلم المنطقي والعلم الرياضي والعلم الطبيعي والعلم الإلهي.
ثم يضيف، رضي الله عنه، أنّ العالَم يطلب من الحقائق الإلهية أربعَ نسبٍ هي الحياة والعلم والإرادة والقدرة؛ إذا ثبتت هذه الأربع النِّسب للواجب الوجود صحّ أنه المُوجِدُ للعالَم بلا شك، فالحياة والعلم أصلان في النِّسب والإرادة والقدرة دونهما.
فعلى الرغم من أن الكثير من علماء المسلمين يعتقدُون بأنّ عدد أسماء الله الحسنى ينتهي إلى تسعة وتسعين، وذلك اعتماداً على الحديث المشهور، إلاّ أنّ ابن العربي يعدّها لا نهائية، وأنّ الأسماء التسعة والتسعين المُشار إليها في هذه الروايات النبوية هي الأسماء الأساسية، وتسمى أسماء الإحصاء.
إضافة إلى ذلك فمن بين هذه الأسماء أو الصفات هناك أربع صفات مخصوصة هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة وهي ضرورية وكافية لكي يكون الله تعالى إلهاً؛ وبالتالي هذه الصفات الأربع هي أمّهات كُلّ الصفات الإلهية الأخرى. ولكن فيما يتعلق بالخلق فهناك ثلاثة صفات أخرى ضرورية أيضاً لكي يكون الله تعالى إلهاً خالقاً لهذا العالَم، وهي السمع والبصر والكلام؛ فيكون المجموع سبع صفات هي أمّهات الصفات الإلهية وهي: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام.
من جهة أخرى فقد ورد في بعض الأحاديث الصحيحة عن النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ على صُورَتِهِ. فبما أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته، فإنّنا نجد أن هذه الصفات الإلهية نفسها تكون صفات أساسيّة في الإنسان وخاصة الإنسان الكامل (مثل آدم عليه السلام والأنبياء).
وكذلك يقول ابن العربي إن الله تعالى خلق العالَم وكُلّ شيء فيه على صورة الإنسان، ولذلك فإنّ العالَم مع الإنسان، الذي هو جزءٌ منه وهو بمثابة روحه، يكون على صورة الحق، لكنّه بدون الإنسان لا يكون عندهُ هذا الكمال. لذلك فإنّ هذه الصفات نفسها يجبُ أن تكُون متوفّرة وضروريّة وأساسيّة في العالَم أيضاً.
من أجل ذلك يُؤكّد ابن العربي أهميّة الأرقام أربعة وسبعة في العالَم وانعكاساتها على المستويات المختلفة فيه، مثل: العناصر الأربعة في الطبيعة (تراب وماء وهواء ونار، كما ذكر في قصيدته في مطلع هذا الفصل)، وكذلك الدورات الأربع للزمن التي نتكلّم عنها الآن، وكذلك السماوات السبع والأيّام السبعة. ومن أهم الرباعيات التي انبثقت عن هذه الأمهات الأربع من الصفات الإلهية (حياة، علم، إرادة، قدرة) هي العناصر الأربعة في الطبيعة وهي التراب والماء والهواء والنار وكذلك العناصر الأربعة الروحانية التي عنها نشأ العالَم وهي العقل الأوّل والنفس الكلّيّة والهباء والطبيعة، ثم بعد ذلك ظهر أثر هذه المجموعات الرباعية الطبيعية في الزّمان، فكان فيه أيضاً كما يشير الشيخ محي الدين أربع دورات رئيسية هي اليوم والأسبوع والشهر والسنة (وهي أيضاً ذات أربعة فصول).
وتعود أصول هذه الدورات الطبيعية الأربع للزّمن إلى العناصر الأربعة في الطبيعة (النار والهواء والماء والتراب)، التي ترجع في أصولها إلى الصفات الإلهية الأربع الأمّهات كما وضّحنا أعلاه. والشكل يوضح بعض هذه الرباعيات التي انبثقت عن الصفات الإلهية الأربع الأمَّهات التي تتَّصف بها الحضرة الإلهية.
الشكل 1: الرباعيات المستندة على الصفات الإلهية الأمهات الأربع (الحياة والعلم والقدرة والإرادة).
ايشبّه ابن العربي هؤلاء الذين يطوفون حول الكعبة بالملائكة الذين يحفون حول العرش، إضافة إلى أنّ الملائكة الأربعة الرئيسيين (جبرائيل، إسرافيل، ميكائيل، عزرائيل) تمثّل القوى الأربعة الرئيسية في الطبيعة وتتعلّق بالزوايا الأربعة للكعبة الشريفة. ولكنّ رمزيّة الكعبة الشريفة تحتلّ مكانة أعمق من ذلك بكثير حيث إنّ ابن العربي بدأ الباب الأوّل من الفتوحات المكية بذكر لقائه بالروح الذي أخذ منه كلّ ما سطّره في هذا الكتاب وهو الروح الذي اجتمع به أثناء طوافه حول الكعبة الشريفة.
ففي هذا الباب الأوّل يذكر ابن العربي مغزى كلّ شوط من الأشواط السبعة في الطواف حول الكعبة وعلاقته بالصفات الإلهية السبع الأمّهات والتي ذكرناه أعلاه وقلنا إنّها المبدأ الأساسي وراء الأيّام السبعة في الأسبوع الأصلي من الخلق، ثمّ يقول الشيخ محي الدين إنّ الكعبة بالنسبة إلى العرش المحيط مثل القلب بالنسبة إلى الجسم؛ لذلك فإنّ حقيقة الكعبة على الأرض مثل الجوهر الفرد في الكون لأنّ الجوهر الفرد مثل القلب في الجسم، فهو قلب العالَم.
فهذا التناظر ينطبق أيضاً على العديد من التفاصيل لأنّ الشكل المكعّب للكعبة أبسط شكل في الأجسام يشمل الأبعاد المكانية الثلاثة، فكما ذكر ابن العربي إنّ الجسم متكوّن على الأقل من ثمان نقاط، تقابل زوايا المكعب.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ ما يثير الاهتمام كثيراً عند ابن العربي في الكعبة الشريفة هو الحجر الأسود الموجود في الركن الشرقي للكعبة والذي نزل به جبريل من الجنة وأعطاه لإبراهيم عليه السلام ليضعه في ذلك الركن. بالنسبة لابن العربي، يمثّل هذا الحجر الأسود الحجر الأساس في بناء الكعبة وذلك بنفس طريقة العنصر الأعظم بالنسبة للجوهر الفرد. فكما أنّ الطواف حول الكعبة يبدأ من الركن الشرقي الذي فيه الحجر الأسود حتى يكمل الحاجّ سبع دورات (بعكس عقارب الساعة)، كذلك يشكّل العنصر الأعظم الجوهر الفرد الذي هو اللبنة الأساسية في العالَم في سبعة أيّام من الأيّام الإلهية السبع.
من جهة أخرى فقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلّم أنّ الحجر الأسود يمين الله في الأرض بها يصافح عباده، فهذا يعني أنّ هذا الحجر يرمز للحقّ المخلوق به وهو أوّل شيء خلقه الحقّ تعالى، وكذلك من أسمائه الحقيقة المحمّديّة أو النور المحمّدي الذي وردت بعض الأحاديث أنّه أوّل ما خلق الله تعالى، وقد قال ابن العربي في الفتوحات المكيّة في الباب السادس "في معرفة بدء الخلق الروحاني ومن هو أوّل موجود فيه: "إنّ بدء الخلق الهباء وأوّل موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية ولا أين يحصرها لعدم التحيّز وهذه الحقيقة وُجدت من الحقيقة المعلومة التي لا تتّصف بالوجود ولا بالعدم". ثم قال إنّه من هذه الحقيقة وُجد العالَم بوساطة الحقّ تعالى وهي ليست بموجودة فيكون الحقّ قد أوجدنا من موجود قديم فيثبت لنا القدم، وهذه الحقيقة لا تتّصف بالتقدم على العالَم ولا العالَم بالتأخّر عنها ولكنّها أصل الموجودات عموماً وهي أصل الجوهر وفلك الحياة والحقّ المخلوق به وغير ذلك، وهي الفلك المحيط المعقول. وهكذا، في بداية الباب الأوّل من الفتوحات المكية، عندما يبدأ ابن العربي الكلام حول حقيقة العنصر الأعظم الذي يتمثّل بالحجر الأسود الذي هو بمثابة يمين الله في الأرض، يقول شعراً:
هلت ذاته فقيل كثيف *** عند قوم وعند قوم لطيف
قال لي حين قُلت لِم جهلوه! *** إنما يعرف الشريفَ الشريفُ.