نشر هذا المقال في العدد السادس والسبعين من مجلة الإمارات الثقافية التي يصدرها مركز سلطان بن زايد.
ملاحظة: يمكن اعتبار هذه المقالة استكمال لمقالتين نشرتا تباعاً في العددين الثامن عشر والتاسع عشر من هذه المجلة، حيث لخصنا فيهما أهم النظريات الفلسفية عن الزمن وصولاً إلى العصر الحديث.
في العقود الأخيرة وبسبب الثورة العلمية في جميع المجالات وخاصة مجال الفيزياء وعلم الكون، تطورت رؤيتنا عن الزّمن بشكل كبير ودخلت مفاهيم جديدة كاختراق الزّمن باعتباره أصبح بعداً من أبعاد الزمكان الرباعي لا يختلف كثيراً عن أبعاد المكان الثلاثة التي ننتقل خلالها بسهولة. وعلى الجانب العملي فقد زادت دقّة حساب الزّمن بشكل كبير لأهميته في التنسيق بين الحركات المعقّدة للآلات مثلاً كالسيارات والطائرات والمراكب الفضائية التي أصبحت تستطيع أن تهبط على الكواكب البعيدة بدقة عالية وبزمن محسوب بدقة كبيرة، من أجل ذلك تطورت أدوات التوقيت كالساعات الالكترونية والذرّية والنجمية (pulsars). ولكن على الرغم من المفاهيم المجرّدة الجديدة حول الزّمن، مثل السفر عبر الزّمن وتحدب الزّمن التي جاءت بها النظريّة النسبيّة، فقد طغى المفهوم العملي للزمن على المفهوم الفلسفي، إذ رغم قدرتنا على الاستفادة من الدقة في حساب الزّمن في الأجهزة والآلات لم نستطع أن نكشف حقيقة الزّمن بل ربما زادت الأسئلة المطروحة حوله كما ابتعد الناس عن التفكير بحقيقته الفلسفية بعدما اندمجوا في الحياة وتعقيداتها اليومية التي تتجلى فيها الأهمية العملية للزمن من غير ضرورة واضحة لفهم معناه وحقيقته. ففي الحقيقة لقد أضافت النظريّات الحديثة للفيزياء وعلم الكون أسئلة وتناقضات جديدة حول الزّمن من غير أن تجيب بشكل مُرضٍ على الأسئلة المطروحة من قبل.
تعتبر نظريّة الحقول الكمّية ونظريّة النسبية العامة والخاصة من أهم النظريّات الأساسية الحديثة التي كان لها أثر كبير في الفيزياء. طبقاً لهذه النظريّات فإنّ الزمكان هو الفراغ الرباعي الأبعاد المؤلّف من مجموعة النقاط التي تقع فيها الأحداث الطبيعية، وليس هناك فرق بين الزّمان والمكان من حيث التعامل معه من الناحية الرياضية رغم اختلاف طبيعتهما؛ فليس هناك زمان فقط ولا مكان فقط بل هناك زمكان أي زمان ومكان ملتصقان معاً ككيان أو حقل واحد.
في عام 1908 كان عالم الرياضيات هيرمان مينكوفسكي، وهو معلّم آينشتاين، أوّل من أدرك أهمية الزمكان كفراغ واحد بدلاً من الزّمان والمكان، فهو يقول في إحدى محاضراته:
إن رؤيتي عن المكان والزّمان التي أريد أن أوضحها لكم قد نبعت من تربة الفيزياء التجريبية، حيث النتائج القوية والحاسمة، وبالتالي فإن فكرة الزّمان لوحده أو المكان لوحده بدأت تتلاشى وبدأت تبرز أهمية الإتحاد بينهما في حقيقة مستقلة تحفظهما معاً.
يعتمد مينكوفسكي في هذا الاقتراح على حقيقة أنّ الأحداث الحقيقية تكون مستقلة عن المراجع أو الأُطُر التي نستقبلها فيها مما يعني أن ترتيب الأحداث حسب أقسام الزّمان الماضي والحاضر والمستقبل ليس حقيقياً، كما اقترح مك- تكارد كم رأينا أعلاه.
فعلى عكس وجهة النظر النيوتونية الكلاسيكية، تعتمد فترات الزّمن كثيراً على مرجعية الإسناد التي يعتمدها المراقب. ففي الميكانيكا الكلاسيكية، وأيضا حسب الحسّ العام، إذا كانت الفترة الزّمنية بين ومضتين ضوئيتين 100 ثانية على ساعة شخص ما، فإنها ستكون كذلك على جميع الساعات بغض النظر عن حالتها وحركتها. ولكن آينشتاين رفض هذا الحسّ العام في نظريّة النسبية الخاصّة التي اقترحها سنة 1905 حيث أعلن أنّ فترة الزّمن (والمسافة) بين حدثين تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على المرجع الذي يقيس منه المراقب. فيقول آينشتاين إنّ كلّ مرجعٍ له زمنه المعيّن الخاص؛ وما لم يحدد لن المرجع الذي نقيس عنده الزّمن فليس هناك أي معنى لزمن الحدث.
وهكذا فإنّ كلّ مرجع يقسم الزمكان بشكل مختلف إلى الزّمان والمكان، ويظهر الفرق بشكل واضح بين المراجع التي تتحرك بالنسبة إلى بعضها البعض بسرعات كبيرة قريبة من سرعة الضوء، في حين أنّ المراجع التي هي ساكنة أو شبه ساكنة بالنسبة إلى بعضها البعض تبدو جميعها متساوية ومتكافئة عندما تقيس الزّمان ولهذا لا نلاحظ الفرق في الحالات العادية. لقد فتحت نسبية الزّمان هذه الأبواب أمام الخيال العلمي عن إمكانية الرجوع بالزّمن إلى الوراء كما نفعل بشكل اعتيادي في المكان، ولكنّ ذلك لم يحصل في الواقع أبداً رغم أن بعض المعادلات الرياضية تسمح به من حيث المبدأ.
إن نسبية الزّمن التي تنشأ عن السرعات القريبة من سرعة الضوء كم شرحناها أعلاه والتي نشرها آينشتاين عام 1905 كانت مقدمة لنظريّةٍ أعمّ وأوسع سمّيت النظريّة النسبية العامة وقد نشرها آينشتاين عام 1915 وهي عبارة عن تعميم لنظريّة الجاذبية لنيوتن ولكنها تتنبأ بظواهر غير معتادة تحدث في حقول الجاذبية الشديدة كانحناء الضوء الذي يسير بخطوط مستقيمة. بعد ذلك بسنوات قام العالِم الإنكليزي أدينغتون بإجراء أوّل إثبات عملي لهذه النظريّة عن طريق ملاحظة ظاهرة الكسوف الكلي للشمس الذي حصل في جنوب أفريقيا سنة 1918، فبدأ العلماء يفكرون في الموضوع بشكل جدّي ويدرسون النتائج المحتملة لهذا الانعطاف الكبير في قوانين الفيزياء وعلم الكون.
في عام 1922 توقع الفيزيائي الروسي ألكساندر فريدمان أنّ الكون يجب أن يكون في توسّعٍ دائمٍ اعتماداً على النظريّة النسبية العامة، الأمر الذي أثبته هبل تجريبياً سنة 1929 من خلال قياسه لانحراف الطيف نحو الأحمر كما أسلفنا أعلاه. هذ يعني أن الكون قد كان في لحظة ما في الماضي عبارة عن نقطة صغيرة ذات كثافة عالية ثم بدأ يتوسع إلى الوضع الحالي وهو ما يزال يتوسع، وهذا ما عُرف بالانفجار العظيم وقد نشأت على أساس ذلك العديد من النماذج الكونية كما ناقشنا بعضها أعلاه.
وعلى أساس ذلك أثبتت التجارب والقياسات والحسابات أنّ الكون بدأ منذ حوالي 15 بليون سنة على شكل نقطة أو كرة كثيفة من الزمكان المحدّب حول نفسه بحيث يحوي نفسه بنفسه؛ فعلى الرغم من عدم وجود نقطة بداية للزمن ليس قبلها شيء ما يزال الزّمان (وكذلك المكان) محدوداً في أبعاد هذه البداية الكونية للانفجار العظيم؛ وهذا الأمر يصعب تصوّره لأننا معتادون على تخيّل العالَم في الأبعاد الثلاثة ول نستطيع تخيّل الأبعاد الرباعية لهذه النقطة أو الكرة التي بدأ منها العالَم، تماماً كما كان الناس في مرحلة قديمة لا يستطيعون تخيّل كرويّة الأرض لأنهم يرونها مسطّحة بشكل يومي.
في الفيزياء والفلسفة الحديثة، يُفترض الانفجار العظيم عادة على أنه حدث نشأ عنه الزّمان والمكان، ولكن من غير الواضح فيما إذا كان من الممكن فعلاً أن نعتبر أنّ هذا الانفجار العظيم حدثاً، لأن الحدث يحتاج ابتداءً إلى زمان ومكان معرّفين مسبقاً. على أية حال، للمرة الأولى في العلم نتوصل إلى وصفٍ رياضي للعلاقة بين الزّمن والكون.
ولكن يجب أن نعرف أنه ما زالت هناك صعوبات جدّيّة في الدفاع عن نموذج الانفجار العظيم فيما يخص لحظة بداية الكون تحديداً، حيث لا تزال النظريّات الحالية عاجزة عن وصف ما حصل قبل ما يسمى بزمن بلانك وهو الزّمن الذي سبق اللحظة 10-43من الثانية حيث يتوقّع بأنّ نظريّة الجاذبية الكمّية قد تزوّدنا ببعض المعلومات عن ذلك، ولكن ليس حتى الآن.
بخلاف المكان فإن الزّمان بطبيعته يتدفّق كالسهم في اتّجاهٍ واحدٍ، من المستقبل إلى الماضي؛ هذه حقيقة ضرورية يدركها الجميع. ويتجلى سهم الزّمان في علم الديناميكا الحرارية من خلال ما يعرف بالأنتروبيا (entropy) التي تصف درجة النظام في أي جملة فيزيائية؛ كلّما كانت الجملة ذات نظامٍ عالٍ تكون الأنتروبيا أصغر، والعكس بالعكس. وبشكل عام فإنّ الأنتروبيا لأيّ جملة تكون في ازدياد ما لم يحصل تدخّل خارجي يعيد لها النظام. ولذلك فإنّ أنتروبيا العالَم أجمعه تزيد بشكل مستمر، لأنه جملة مغلقة ليس عليها أي تأثير من الخارج، أي أنّ درجة الفوضى دائماً في ازدياد. هذا يعني أن العالَم يسير في اتجاه واحد نحو نهايته ولا يمكن عكس هذه العملية من غير تدخل خارجي. فعلى سبيل المثال إنّ عملية خلْط الماء الحارّ بالماء البارد تؤدّي دائماً للحصول على الماء الدافئ وهذه العملية لا تنعكس أبداً من تلقاء نفسها من غير تدخّلٍ خارجي مثل أجهزة التبريد مثلاً.
ولكن المشكلة في الأنتروبيا وسهم الزّمن أنّ الزّمن يبدو فيها متغيّراً متماثل الاتجاه في أكثر المعادلات والقوانين الطبيعية. هذا يعني رياضياً أنّ المتغيّر "t" يمكن أن يستبدل بالمتغيّر "-t" وستبقى هذه القوانين صحيحة. يفسّر بعض العلماء ذلك بأنّ السهم الكوني للزمن سيعكس اتّجاهه يوماً ما عندما توقِف قوة الجاذبية التوسّع الحاصل في الكون ليبدأ بالعودة من جديد إلى حالته الأوّلية التي انطلق منها. تسمّى هذه العملية بالانهيار العظيم (big crunch)، وهي عكس الانفجار العظيم (big bang) الذي يتوقع أن يحدث من جديد بعد ذلك، ويسمى هذا النموذج بنموذج الكون النابض (oscillating universe).
إنّ من أهم النتائج الرائعة والمثيرة لنظريّة النسبية أنّها تسمح بالسفر خلال الزّمن، نحو الماضي وإلى المستقبل، كما نسافر في أنحاء المكان. لقد أثارت هذه الأفكار الخيال العلمي عند الكتّاب والفلاسفة وتم إنتاج العديد من الأفلام وكتابة الكثير من القصص المثيرة حول هذا الموضوع، على الرغم من أن ذلك لا يزال مستحيلاً من الناحية العملية.
في الحقيقة إنّ التنقل عبر الزّمن أمر يحصل كثيراً في الأحلام والخيال والذاكرة، ولكننا هنا نتكلم عن الزّمن الطبيعي وليس عن الزّمن النفساني. من ناحية أخرى، فإننا في الحقيقة دائماً ننظر فعلياً في عمق الماضي عندما ننظر إلى النجوم مثلاً حيث إنّنا في الحقيقة نراها كما كانت عليه قبل آلاف السنين عندما انطلق منه هذا الضوء الذي يصل إلينا الآن. كذلك يمكننا مثلاً أن نركب طائرة باتجاه الغرب وبسرعة بحيث نستطيع تخطي الحركة الظاهرية للشمس فنسبق حركة اليوم ونسير بعكس اتجاه الزّمن من الظهر إلى الصبح مثلاً. كذلك من الممكن مثلاً، من حيث المبدأ، تجميد الجسم عدة سنوات وتحريره بعد ذلك فيكون ذلك مثل العبور للمستقبل. ولكنّ كلّ ذلك أيضاً ليس هو مقصودنا بالتنقّل عبر الزّمن الذي تسمح به النظريّة النسبية.
ولكن على الرغم من أن السفر الحقيقي عبر الزّمن ممكنٌ من حيث المبدأ حسب المعادلات الرياضية في النظريّة النسبية، إلاّ أنّ ذلك في كثير من الأحيان يؤدّي إلى تناقضات لا يمكن أن تحدث فعلياً. فهناك أنواع مختلفة من السفر عبر الزّمن، فبخلاف الأنواع البديهية التي ذكرناها أعلاه فإنّ أحد الإمكانيات الحقيقية لعبور الزّمن حسب النظريّة النسبية هو التحرّك بسرعةٍ هائلةٍ قريبةٍ من سرعة الضوء، حيث يصبح الزّمن الذي يمرّ على الشخص المتحرك أقل بكثير من الزّمن الذي يمرّ على الشخص الساكن. فلو أنّ شخصاً سافر على صاروخ فضائي بسرعة قريبة من سرعة الضوء لمدة ساعة حسب توقيته وعاد إلى الأرض سيجد، حسب النظريّة النسبية، أنّ الزّمن الذي مرّ على الأرض قد يزيد على الآلاف من السنين، فيكون قد سافر فعلياً إلى المستقبل. وكذلك يمكن السفر إلى الماضي بشكل مشابه، ولكن من الواضح أنّ ذلك له نتائج غير مقبولة منطقياً. فهل يمكن مثلاً أن يسافر شخصٌ ما إلى الماضي ويمنع والديه من إنجابه، أو حتى مجرّد رؤية والديه قبل أن يتزوجا، أو يسافر إلى المستقبل ويرى أحفاده وأحفادهم ؟!
وكذلك هناك نوع آخر من السفر عبر الزّمن سببه تحدّب الزّمن بسبب الجاذبية الكبيرة جدّاً، قرب الثقب الأسود مثلاً، ولكن بخلاف ما يُعرض عادة في الأفلام والقصص الخيالية، فإنّ السفر عبر الزّمن ليس سفراً مفاجئاً وإنما هو مرور سريع في كلّ اللحظات التي مرّ خلالها المسافر.
أما بخصوص بنية الزّمن وهل هو كمّيّة متّصلة أم كمّيّة منفصلة، فإنّ جميع النظريّات العلمية الرئيسية حتى الآن تعتبر الزّمن مستمراً ويمكن تقسيمه بشكل لا نهائي بحيث يوجد بين كلّ لحظتين لحظة أخرى من غير نهاية، هذا ما نجده على الأقل من الناحية العملية. ولكن هناك بعض الإشارات إلى أنّ الزّمن قد يصبح متقطّعاً في الفترات التي تقل عن زمن بلانك (10-43 من الثانية) غير أنّ ذلك لم يدخل بعد ضمن الإمكانيات التجريبية الحالية مع أن هناك بعض النظريّات التي تحاول استكشاف هذا المجال كنظريّة الجاذبية الكميّة التي أشرنا إليها أعلاه.
كما ذكرنا من قبل فإن فكرة الزّمن المكمّم قديمة وتوجد في الفلسفة الإسلامية وغيرها، ولكنّ نجاح النظريّات العلمية كالميكانيكا الكلاسيكية والنسبية والميكانيكا الكمية، التي تعتبر جميعها أن الزّمن كمّيّة متصلة، أدّى إلى صرف النظر عن تكميم الزّمن لمدّة طويلة.
يضاف إلى ذلك أنّ فكرة تكميم الزّمن لم تنجح حتى الآن في تفسير النتائج المعروفة تجريبياً ونظرياً حسب النظريّات الحالية للفيزياء. ولكنّ عجز هذه النظريّات عن كشف حقيقة الزّمن أدّت إلى إعادة النظر من جديد في الاحتمالات الأخرى. ومع ذلك فإنّ هناك بعض العلماء الكبار مثل ستيفن هوكنج يرون أنّه ليس هناك أيّ سبب لترك النظريّات الحالية التي تقول باستمرارية الزّمن والتي أثبتت نجاحها حتى الآن، فقد نستطيع حلّ مشكلة البنية الازدواجية للزمن المتصلة-المنفصلة مثلما تمّ حلّ مشكلة ازدواجية الطبيعة الموجيّة-المادّيّة للضوء والجسيمات الأخرى.
إنّ الطرق العملية لتكميم الزّمن في النظريّات العلمية الحديثة تستند على معادلات رياضية معقّدة مثل نظريّة الشبكات (lattices) والخلايا الآلية (cellular automata) والتي لا يمكننا الدخول في تفاصيلها هنا في هذا العرض السريع، ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الشيخ محي الدين يصرّح بأن الزّمن كمّيّة منفصلة ويعامله بشكل مكمّم ولكن بطريقة فريدة لم تُطرح من قبل لا في العلم ولا في الفلسفة، وقد يكون ذلك هو المفتاح لحل العديد من المتناقضات التي وصلت إليها النظريّات الفيزيائية الحديثة كما وضحنا في مقالات أخرى.