نشر هذا المقال في العدد الخامس والسبعين من مجلة الإمارات الثقافية التي يصدرها مركز سلطان بن زايد.
يأتي هذا المقال ردًّا توضيحياً على مقال الدكتور محمد حافظ يعقوب الذي نشر في العدد 74 من هذه المجلة، والذي حاول فيه أن ينتصر للفيلسوف ابن رشد، ولكنه فعل ذلك بطريقة أوحت للقارئ وجود عداوة باطنة وصراع أصيل بين الصوفية والفلاسفة، مستدلا على ذلك من خلال القصة الشهيرة للقاء الرمزي بين هذين العلمين من أعلام الحضارة الإسلامية الخالدة.
لم يكن للشيخ الأكبر أعداءٌ على الإطلاق، وإن كان أحدٌ قد أنصف من يخالفه في الرأي أو في المذهب أو حتى في الدين، فهو سلطان العارفين الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي اليمني الأندلسي الدمشقي. وإن كان هناك من عاداه، في عصره أو بعد وفاته، فهي عداوة من جانب واحد ل تعود إلا على صاحبها، ولم تؤثر على مقام الشيخ الأكبر ومنزلته إلا رفعة وشهرة وتألُّقاً. كذلك كان الفيلسوف العظيم ابن رشد منشغلاً بنفسه ومشتغلاً بعلومه وأبحاثه وكتبه، غير أنه كان أقل حظاً لأنه تألَّق في وقت عصفت فيه تغيرات السلطة والسياسية والثقافة، مما أدى إلى مأساته ونفيه وموته بطريقة ليس لها أدنى علاقة بالشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ولا أي ارتباط بمذهبه العرفاني الذي يخالف مذهب الفلاسفة والفقهاء وطريقة تفكيرهم، دون تكفيرهم أو معاداة أشخاصهم أو ازدرائهم أو الانتقاص من آرائهم وأقوالهم.
كمثال على ما نقول، نجد الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية مثلاً كثيراً ما يسرد آراء الفقهاء والفلاسفة ويحللها ويرجح بعضه على بعض، ويخالف بعضها الآخر، ثم يشرح رأيه ويوضحه من غير أن يذكر أصحاب الآراء المخالفة بسوء، بل كثيراً ما يبرر وجهة نظرهم ويوضح سبب اتخاذهم هذه الآراء المخالفة، حتى وإن لم يوافقها أصلاً.
إن من يقرأ في كتب الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي يصعب عليه الاستمتاع بقراءة ما يكتبه غيره، حتى أولئك المؤلفون الكبار والفلاسفة العظماء الذين يغوصون في غوامض العلوم والمعارف، لكنهم في أغلب الأحيان يكررون أقوال من سبقهم، وربما يحللونها ويحاولون استنباط معارف جديدة منها. والأمر يزداد صعوبة عندما يحاولون تقريب هذه الأفكار، ذات الأغوار العميقة، واختصارها في مقالات قصيرة تنشر عادة في وسائط سريعة يقرؤها في الغالب أناس لا يملكون المعرفة اللازمة لفهم هذه العلوم الدقيقة.
في مثل هذه الأحوال، فإن الكلمات والجمل التي يستخدمها الكاتب تكون ممتلئة بالإيحاءات والتلويحات والتلميحات، بالإضافة إلى بعض التصريحات، منها ما يمكن فهمه ومنها ما لا يمكن فهمه، ومنها ما هو صحيح ودقيق، ومنها ما هو ممطوط ومغلوط، وقد يكون ذلك كله مقصود، أو ربما يكون مجرد أسلوب فني تشكيلي يُضفي على الكتابة روحاً وحيوية ويظهرها بصورة جميلة راقية.
أما كتابات الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي، رضي الله عنه، وأمثاله من المحققين، فإنها عامرة بالدقائق وذاخرة بالرقائق، وكثيراً ما يكتشف القارئ وراء كل كلمة جيشاً من الإشارات، وفي كل جملة بحراً من المعاني والحقائق، التي لا تلبث أن تتكامل مع بعضها، لتشكل عِبارات، أو عَبّارات، تحمل القارئ في بحر الفيوضات الإلهية إلى عالم آخر حقيقي عاشه هؤلاء المحققون الذين ما نقلوا لنا إلا ما ذاقوه كشفاً ومشاهدة، لا ما تخيلوه بالوهم أو استنبطوه بالقياس والفكر.
فإذا كان القصد هو تمتيع القارئ وتسليته، لا بأس في ذلك، فهذا أمر جميل ومقصود، ومن أجل ذلك وُجد الأدب بما فيه من فنون الشعر والقصص والروايات. أما إذا كان الهدف تقديم المعلومات الصحيحة التي يمكن أن نبني عليها نظريات ومعارف تؤدي إلى تطور الوعي والثقافة والعلم، وحتى الصناعة والتجارة، فليس هناك أصدق وأعمق من الكتب العرفانية التي ألَّفها المحققون من العلماء والأولياء، من أمثال الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي. ونحن بذلك لا نقلل من أهمية باقي العلوم والمعارف، بما فيها الفلسفة، والفقه، بل إن الدراسة المتأنية لجميع أنواع المعارف التي قاومت الترهل والاندثار ولا زالت تتردد بين أوراق الفلاسفة ودفاترهم، يعود أصلها بالدرجة الأولى إلى الصوفية، سواء قبل الإسلام، من أمثال هرمس وزرادشت وبارمنيدس، وبعده أمثلة كثيرة لا تحصى، ومنها كتب الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي.
وفي العصر الإسلامي تحديداً، فإن الكثير من أساطين علماء الفقه والشريعة أخذوا علومهم من بعض أئمة الصوفية، فقد كان الإمام أبو حنيفة النعمان شيخ طريقة في التصوف، والإمام محمد بن إدريس الشافعي صحب الصوفية واستفاد منهم، والإمام أحمد بن حنبل أوصى ولده عبد الله بمجالستهم، ويقول الإمام مالك بن أنس: «من تفقه ولم يتصوف فقد تفسَّق، ومن تصوَّف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقَّق.»
فالمشكلة بين الفقهاء والفلاسفة مفتعلة، وليس لها أصل في الشرع الإسلامي، بل هي بالأصل ناتجة عن توجهات سياسية لمن كانو يملكون السلطة في مراحل الحكم المختلفة، خاصة في الأندلس، وفي كل الأحوال فإن الفقهاء الذين يحاربون الفلاسفة يحاربون الصوفية على الأغلب، ويعدونهم فلاسفة. إذ ليس هناك أي مشكلة أصلاً بين الصوفية والفلاسفة، بل الحقيقة أن الصوفية لم يتخذو أعداءً قط، وكذلك فعل الفلاسفة الجادُّون، من أمثال ابن رشد نفسه، إذ لم يكن لديهم وقت لمعاداة أحد ولم يكن لديهم أطماع في سلطة ولا نفوذ.
لقد تحدث الكثير من الباحثين في أزمة الفيلسوف ابن رشد، وحاول بعضهم مقاربتها من خلال القصة التي أوردها الشيخ محي الدين في فتوحاته عن اللقاء الذي حصل بينهما أثناء مرحلة صباه، عندما كان ابن رشد قاضي القضاة في قرطبة، أي قبل نفيه بفترة كبيرة. والشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ليس له أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد بهذه الأزمة، وهو إنما يذكر اختلافه مع ابن رشد كمثال على الاختلاف الجذري بين فهم الفلاسفة وفهم الصوفية للوجود وطريقة دراسته، فالأوّل فيلسوف يعتمد على النظر والمنطق والثاني صوفي يثق بالذوق والمشاهدة. ولقد شاء ابن العربي أن ينقل لنا الحديث الرمزيَّ المقتضب الذي دار بينهما لما فيه من إشارات بديعة يمكن أن تكون أساساً للجمع بين العقل والشهود، أو بين العلم العقلي النظري والعلم الفيضي الإلهي، من أجل الوصول إلى نظريةٍ متكاملةٍ تستطيع فهمَ الوجود، بطرفيه الطبيعيِّ والروحانيِّ، وتفسيرَ الظواهر الكونيَّة الأساسيَّة كالحركة، وفهم ماهيَّة الزمان والمكان.
وهذا الأمر في غاية كبيرة من الأهمية، لذلك خصصنا له مقالاً مفصلاً نشرناه في العدد التاسع من هذه المجلة بعنوان "ما بين نعم ولا (ابن رشد وابن العربي – الفرق والجمع بين العقل والقلب)" والذي ورد فيه تحليل عميق للكلام بينهما، ولا نريد أن نكرر ذلك هنا.
لكن في جميع الأحوال، رغم الاختلاف الكبير بين الشيخ محي الدين وبين الفلاسفة، وكذلك الفقهاء، بل وحتى الكثير من الصوفية، إل أنه لم يذكر أحداً من هؤلاء أو غيرهم بسوء أبداً، ولا يمكن أن تجد في كتبه أي إشارة ينتقص فيها أي شخص مهما خالفه في الرأي.
والأمثلة على ما ذكرناه كثيرة في كتب الشيخ، ولكن يضرب الشيخ محي الدين أفضل مثل في التعامل مع أعداء الله، الذين يقول الله تعالى فيهم: "يا أيها اللذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تُلقون إليهم بالمودّة"، فيقول الشيخ الأكبر، رضي الله عنه، في الفتوحات المكية (ج2ص363): "فمن أراد تحصيل مقام الخِلَّة وأن يكون خليلا للرحمن، ويجمع بين هذه الآية وبين إحسان الله لأعدائه، مع جهلهم أن هذا الإحسان من الله سبحانه وتعالى، فينبغي للإنسان الطالب مقام الخلة أن يحسن عامة لجميع خلق الله، كافرهم، ومؤمنهم، وعاصيهم، وإنسهم، وجنهم، وملكهم، وجميع الحيوانات، والنباتات، والجماد، وأن يقوم في العالم مع قوته مقام الحق فيهم من شمول الرحمة وعموم لطائفه، من حيث لا يُشعرهم أن ذلك الإحسان منه، ويوصل إليهم الإحسان من حيث لا يعلمون. فمن عامل الخلق بهذه الطريقة صحت له الخلة". فكيف لمن يكون دينه هكذا أن يكون له أعداء؟ هذا هو روح الإسلام الذي نحن بحاجة إلى إنعاشه في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى.