نشر هذا المقال في العدد السابع والخمسين من مجلة الإمارات الثقافية التي يصدرها مركز سلطان بن زايد.
يعتقد الفلاسفة والكيميائيون القدماء بوجود مادة سحرية لها قدرة تشفي من جميع العلل والأمراض والإنحرافات في النفس والجسم والطبيعة، ويمكن بواسطتها مثلاً تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، كما يمكنها تحويل الإنسان العادي إلى فيلسوف حكيم، وتسمى هذه المادة حجر الفلاسفة، أو الحجر الكريم، أو الإكسير، وقد تُسمى بالكبريت الأحمر أو الزئبق الأحمر أو الزهر، أو الشيء الواحد، أو حجر الحكمة، أو الخلاصة، أو اليد السماوية، أو الماء الإلهي، أو الماء البكر، أو الدراغون، أو الأسد، أو العنقاء، .. إلخ من هذه الأسماء التي تشير إلى نفاستها. وتشير دراسة التاريخ والمخطوطات إلى انشغال الكثير من العلماء والفلاسفة في الحضارات القديمة بهذه المادة وخواصه وكيفية تركيبها واستعمالها، كما أنَّ بعض علماء العصور الوسطى المشهورين، مثل إسحق نيوتن، قضوا جزءً كبيراً من حياتهم في البحث عن الإكسير، حتى إنّ بعض الدول مؤخراً استخدمت المفاعلات النووية للحصول على الزئبق الأحمر الذي ثارت حوله شائعات كبيرة وأصبح يُباع بمبالغ خيالية.
لكنَّ تطوراً كبيراً في هذا السياق يبدو أنه قد حصل في السنوات الأخيرة حين لاحظ أحد المزارعين في أمريكا أن التربة في مزرعته تحتوي على مواد غريبة ذات خواص فيزيائية وكيميائية فريدة ولها قدرة فائقة على شفاء العديد من الأمراض المستعصية، وقد تبين لاحقاً أنها ليست مادة جديدة وإنما هي حالة خاصة من المادة تكون فيه الجزيئات مؤلفة من ذرة واحدة أو عدد قليل من الذرات التي ترتبط مع بعضها بطريقة معينة تُكسبها صفات فائقة من الناقليلة الكهربائية والسيولة، وبالتالي فإنها تُكسب خلايا الجسم طاقة لطيفة تستطيع من خلالها العمل بتناغم كبير وبجهد أقل بكثير مم تحصل عليه من المواد الغذائية العادية. وكذلك فقد أكدت الدراسات التاريخية أن مثل هذه المواد كانت تقدَّم للفراعنة وكانت تسمى "خبز الآلهة" أو باللغة المصرية القديمة: "شي مان"، وهي نفسها "المن" الذي أنزله الله على بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر إلى أن طلبوا من نبيهم أن يخرج الله لهم البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل، فقال لهم: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).
ورد في كتاب مفاتيح العلوم أن الإكسير هو الدواء الذي يحوِّل المعدن المصهور إلى ذهب أو فضة، كما يمكن أن يُطيل حياة الإنسان بتخليص جسده من الأمراض. ويبدو أنّ الفراعنة استخدموا مثل هذه المواد في الطعام وفي التحنيط، وورثها عنهم الفلاسفة اليونانيون، كما توجد إشارات عديدة إلى أنّ الصينيين القدماء كانوا يعرفون الإكسير. ومن العرب اشتهر عالم الكيمياء جابر بن حيان، الذي اعتمد الفلسفة اليونانية التي تقول إنّ كلّ مادة أو جسم يتصف بمزاج محدد من أربع خواص هي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، وبالتالي يمكن تحويل المواد من خلال تعديل مزاجها، إلى أن تصبح مثل الذهب أو الفضة. وتقول بعض الروايات إنَّ قارون استخدم الإكسير للحصول على ثروته الهائلة التي ذكرها القرآن الكريم، كما فعلت كليوباترا، وكما ذكر الفيلسوف ديموقراطيس عن كهنة الفراعنة أنهم كانوا يحولون التراب إلى ذهب في المعابد، وكم كان يفعل الملك ميداس الذي حوَّل ابنته إلى تمثال ذهبي حينما لمسها ناسياً أنَّه كان يحمل معه الإكسير.
إنَّ مثل هذه الأساطير قد يكون لها أساس علمي، وذلك أنَّه من السهل جداً تركيب محاليل كيميائية يمكنها أن ُتكسب المعادن لوناً ذهبياً عن طريق طلائها بالذهب المحلول بالماء الملكي أو باستخدام خليط من الذهب والزئبق، ولكن ذلك بالطبع ل يغيِّر طبيعة المعدن نفسه ويحوِّله إلى ذهب. من حيث المبدء أيضاً، يمكن تحويل المعادن إلى ذهب حقيقي، وذلك لأنَّ الذهب لا يختلف عن بقية المعادن والعناصر الكيميائية الأخرى إلا بعدد البروتونات والنيوترونات في النواة، فإذا قمنا بتغيير هذا العدد في ذرات معدن ما وجعلناه مطابقاً لتركيب ذرات الذهب، عندئذٍ يتحوَّل هذ المعدن إلى ذهب حقيقي خالص. ولكن في الواقع هذه العملية تحتاح إلى تفاعلات نووية لم تكن أبداً في متناول الكيميائيين القدامى، وهي الآن إن وُجدت فهي تكلِّف أكثر بكثير من ثمن الذهب الذي يمكن أن نحصل عليه.
وفي العقود الأخيرة، ومع تطور المفاعلات النووية، بدأ الحديث عن الإكسير ينتشر من جديد عن طريق مادة تسمى الزئبق الأحمر، كانت تصنع في ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي الذي بدأ بإنتاج هذه المادة عام 1968م في مركز دوبنا للأبحاث النووية، وكانت تباع بثمن قد يصل إلى ملايين الدولارات.
كذلك أثيرت الكثير من الشائعات أيضاً أن مثل هذه المادة وُجدت حديثاً في مصر في قبر آمون.تف.نخت، وكان أحد كبار قادة الجيش الفرعوني، ولا تزال هذه المادة السائلة محفوظة في متحف التحنيط في مدينة الأقصر، غير أنّ الأبحاث أشارت إلى أنها تحتوي على أملاح ودم وأنسجة آدمية.
لقد ألف أبو يعقوب السجستاني كتاباً صغيراً سماه "الغريب في معنى الإكسير"، وأوضح في المقدمة أنّ سبب اختياره هذا الإسم هو أنَّ الإكسير شيءٌ غريب حقاً، ولكنَّه أوضح كذلك أنَّ الغريب حقيقةً هو المجهول بين أهله. وتقول أغلب الكتب والمخطوطات القديمة أنّ الإكسير يتألف من جسد وروح ونفس، تُفصَل بتفصيل طبيعي ثم تُركَّب بتركيب طبيعي ليكون منها دواء يشفي علل باقي المعادن ويردَّها إلى الطبيعة الذهبية، وذلك لأنَّ كلَّ المعادن خُلقت لكي تكون ذهباً، فأصابتها أعراض وأمراض أدَّت إلى اختلال مزاجها فانعقدت قبل أوانها، ولم ترقى إلى معدن الذهب. والعقار الذي يكون منه الإكسير هو واحد بالنوعيه ومتعدد في الشخصيه، أي إنه من عدة معادن جُمعت فصارت شيئاً واحداً.
لكنَّ الفلاسفة والحكماء لم يكونوا يهتمون بالإكسير للحصول على معدن الذهب نفسه، وإنما لتحويل معدن الإنسان إلى معدن الفضائل والحكمة، وهو ما يُسمى بالصنعة الإلهية أو الكيمياء الإلهية أو كيمياء السعادة، وهي علم تزكية النفوس وقد اختصَّ به الأنبياء والأولياء ويمكن الوصول إليه عن طريق التلقين من الشيوخ العالمين به، أو عن طريق الرياضة والخلوة، علماً أنّه كثيراً ما يتمُّ الخلط بين التأثير على النفوس من أجل تزكيتها وتربيتها، والتأثير عليها لأهداف دنيوية أخرى، وهو مجال كبير يتداخل في أغلب الأحيان مع السحر والشعوذة. ولقد أوضح الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي في آخر بيت في قصيدته التائية، أنَّ العلماء الحقيقيون لا يطلبون من علم الكيمياء الإلهية تحويل المعادن إلى ذهب أو التأثير في النفوس من أجل تسخيرها في خدمتهم أو الحصول على أيِّ مكسب دنيوي، وذلك لأنَّ ذلك -إنْ كان ممكناً- إنَّما يُبعدهم في الحقيقة عن المراد، وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك لخَّص الشيخ قصيديته وختمها بهذ البيت:
وطالبُ غيرِ اللهِ في الأرض كلِّها *** كطالبِ ماءٍ من تُرابٍ بِقِيعَةِ
فالإكسير الحقيقي الذي يحول معدن الإنسان إلى الحكمة حتى يصير حكيماً أو فيلسوفاً هو الفكر والنظر في علوم الفلاسفة والحكماء الأولين وفك رموزهم والبحث عن خفايا أسرارهم، فقد تعددت الرموز في معنى الذهب، فسموا الكبريت بالذهب، وسموا الصبغ ذهباً، وسموا الخمير ذهباً، وكلها رموز لإبعاد الناس عنها حتى لا تخرب الدنيا، لأن الذهب قوامُها ولو كشفوا أسمائها لوصل لها كلُّ واحد ولبطلت المعاملات بين الناس.