نشر هذا المقال في العدد الرابع عشر من مجلة الإمارات الثقافية التي يصدرها مركز سلطان بن زايد.
دمشق مدينة فريدة، وكما كان ابن العربي رجلاً فريداً، كذلك كان عشقه للشام فريداً، سمّاه الحبَّ المجهول؛ فالحبُّ معروف مجهول، وابن العربي معروف مجهول، وكذلك دمشق معروفة مجهولة. من أجل ذلك اختار ابن العربي دمشق من بين بقية المدن، والشام من بين بقية البلدان، حتى يستقرَّ فيها بعد طول الترحال وقطع البيادي والتلال، لأنها المدينة التي تنتهي إليها الآمال، فكان له مكانة مرموقة بين أهله وعلمائها وأمرائها، ومنها انتشرت علومه وتعاليمه، وفيها كتب أغلب كتبه وأكثره تأثيرا، كالفتوحات المكية وفصوص الحكم، كما سنوضح في هذه المقالة المختصرة عن كتاب شمس المغرب في سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه.
لقد كان ابن العربي كثير الترحال، فأصله من اليمن ووُلد في مرسية شرقي الأندلس سنة 560 للهجرة (1165 للميلاد)، ثم انتقل إلى إشبيلية فعاش فيها حوالي عشرين سنة طاف خلالها بين الأندلس والمغرب وتونس، ثم ارتحل إلى المشرق فأقام في مصر مدة وجيزة، وسكن المدينة المنوَّرة ومكة المكرَّمة والطائف، ثم ارتحل إلى العراق فمرَّ في البصرة وبغداد والموصل مرات عديدة، ثم طاف في الأناضول وشمال سورية، وسكن مدَّة في حلب، وسكن في قونية وملطية حوالي عشرين سنة قام خلالها برحلات عديدة بين العراق ومصر وسورية وفلسطين، قاصداً مكة للحج كلما سنحت له الفرصة، إلى أن استقر في دمشق سنة 620/1223 إلى أن وافته المنية ليلة الثاني والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة 638 للهجرة (9/11/1240 م).
يقول ابن العربي إنه لما دخل الشام أحسَّ بحبٍّ مجهول لم يستطع تفسيره ولم يعرف من أحبَّ ولماذا أحبَّ. والحقيقة أنَّ هذا الشعور يحسُّ به الكثير من الناس حين يدخلون دمشق، على اختلاف أعراقهم وأديانهم وانتماءاتهم، فما إن يطؤون أرضها حتى تسحرهم وترميهم بسهام الهوى، فيعشقونها ولا يستطيعون نسيانها، وقد يحاولون تفسير سبب حبهم للشام ولكنهم لا يستطيعون. فمنهم من يقول إنه عشق فيها الآثار والأبنية والشوارع، ومنهم من يقول إنه عشق الأطعمة والمأكولات، ومنهم من يعشق الحارات، ومنهم من يعشق الناس والأسواق، والجبال، والتلال، والوديان، ويجعلونها موضوعاً لفنونهم ولوحاتهم، كالفنان التشكيلي والرحالة الإنكليزي �فريدريك لايتون� (1830 1896) الذي زار سورية ومكث في دمشق في خريف عام 1873 فتأثر بآثارها وعمائرها وحاراته ومشغولاتها اليدوية، وعشق بيوتها بشكل خاص.
تُعدُّ دمشق أقدم مدينة مأهولة في التاريخ البشري وهي واحدة من أقدم المدن على وجه الأرض، إلى جانب القدس والجيزة، حيث تعود بدايتها إلى أكثر من اثنتي عشر ألف سنة، وقد احتلت مكانةً مرموقةً في مجال العلم والثقافة والسياسة والفنون خلال الألف الثالث قبل الميلاد. ويذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان أنَّ أوَّل حائط وُضع في الأرض بعد طوفان نوحٍ هو حائط دمشق، وقد كان لسورها سبعةُ أبوابٍ على عدد الكواكب السيَّارة. ودمشق كلمة آشورية تعني الأرض الزاهرة أو العامرة، ويقول البعض إنَّ أصلها عربي من الفعل "دَمْشَقَ" أي "أسرع"، لإسراعهم في بنائها، وقيل أيضًا إنَّه سُميت نسبة إلى "دماشق" أحد أحفاد سيدنا نوح، ومن أسمائها أيضًا: جلَّق، والشام، وشامة الدنيا، والفيحاء.
كانت دمشق عبر التاريخ المركز الحضاري لبلاد الشام، والشام كلمة عامة تشير إلى المنطقة الواسعة التي تضم الآن فلسطين والأردن ولبنان وسورية وهي التي شكلت قلب الحضارة الإسلامية، مع أن دمشق تدعى أيضاً بالشام وهي التي تُقصد عادة إذا أتت غير مضافة، أما إذا قلنا بلاد الشام فهي هذه المناطق الواسعة التي ذكرناها. وكلمة الشام لفظ عربي يرجع إلى تسمية العرب ما هو شمال مكة بالشآم، وما على يمينها باليمان، وقيل كذلك إنه نسبة إلى سام بن نوح.
في نهاية الألف الثاني أسس الزعيم الآرامي ريزون مملكته في دمشق، ثم تعاقب على حكمها الأشوريون والكلدانيون ثم الفرس، ثم جاء الغزو المقدوني ليشكّل نقطة تحوّل كبيرة في تاريخ المنطقة، فقد ارتبط تاريخ دمشق بالحضارة اليونانية لعدة قرون عرفت المدينة خلالها ازدهار الحضارة الهلنستية، حيث تمازجت عناصر الثقافة اليونانية مع حضارة الشرق وثقافته.
دخلت الجيوش الإسلامية مدينة دمشق في القرن السابع الميلادي، وأصبحت المدينة في العصر الأموي عاصمة دولة تمتد إلى حدود الصين شرقاً وإلى المحيط الأطلسي غرباً، وشُيّدت خلالها القصور وامتدّ العمران، وكان من أهم معالمها الجامع الأموي الكبير الذي تمّ بناؤه في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، وهو المكان المفضّل للكثير من العلماء والصوفية أمثال أبي حامد الغزالي وكذلك الشيخ محي الدين ابن العربي.
وفي عهد الخلافة العباسية تحولت عاصمة الدولة الإسلامية إلى بغداد ولكن دمشق بقيت مركزاً مهمّاً للثقافة والعلوم. وبعد أن تضعضعت السلطة العباسية، ارتبطت دمشق بالدولة الطولونية قبل أن تخضع للخلافة الفاطمية، وقد تعرضت في تلك الحقبة لغزوات القرامطة الذين احتلوها عدة مرات، مما أحدث فيها الكثير من الخراب والدمار. ثم بسط السلاجقة سلطتهم على دمشق فحكمها بعض الأتابكة في شكلٍ شبه مستقل عن الخلافة العباسية.
ولما اشتدت شوكة الفرنجة واحتلوا العديد من مدن الساحل السوري وفلسطين، حاصرو دمشق فقاومهم مُعين الدين أنر وصدّ الحصار الذي فرضته قواتهم في داريّا، وجاء من بعده نور الدين محمود زنكي فوحّد المشرق ومدّ نفوذه إلى مصر بفضل القائد التاريخي الخالد الناصر صلاح الدين الأيوبي. وبموت الخليفة الفاطمي العاضد سنة 567/1171، انتهى الحكم الفاطمي في مصر التي توحدّت مع الشام تحت حكم صلاح الدين، فاستعادت دمشق بريقها واحتلت مركز الصدارة في الميدان السياسي والعسكري في المشرق العربي، إلا أنها لم تنعم بذلك طويلا؛ فبعد وفاة صلاح الدين تصدّعت الدولة الأيوبية، وتقسمت بين أولاده وأولاد عمومته الذين تقاتلوا فيما بينهم طويلاً فأخذت الدولة بالانهيار شيئاً فشيئاً حتى سقطت في أيدي المغول سنة 658/1260 ليبدأ بعدها عصر المماليك.
وإلى جانب كلِّ هذه التقلبات والدول، كانت دمشق، وبلاد الشام عموماً، معقل العلماء والأولياء من المسلمين الذين وردوها وهاجروا إليها من المغرب والمشرق خلال مراحل التاريخ الإسلامي، أو من الذين وُلدوا فيها وترعرعوا في رحابها وقرؤوا في مدارسها وتحت رعاية شيوخها وعلمائها.
يقول التابعيُّ عطاء الخُراساني إنّه لما همَّ أن يترك خراسان شاور من بها من أهل العلم فأشاروا عليه أن عليك بالشام! ثم أتى البصرة والكوفة ومكة المكرمة والمدينة المنوَّرة وكان دائماً يشاور العلماء فكلهم يقول: عليك بالشام!
وحتى قبل الإسلام كانت الشام مهبط الأنبياء وقِبلة الأولياء، وقد ورد أنّ إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم هاجر إلى الشام، وفي جبل قاسيون مرقد نبي الله ذي الكفل، وفيه كذلك مرقد الأربعين الصالحين، وعند سفحه الغربي ربوة صغيرة تطل على وادٍ يقال له النيرب، وهي التي أوت إليها مريم العذراء مع ابنها عيسى عليهم السلام. ودمشق هي أيضاً مهبط عيسى عليه السلام في آخر الزمان، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: �ينزل عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق.� وهذه هي المنارة الشرقية في الجامع الأموي، والمنارة الغربية في هذا الجامع هي التي تعبَّد فيها أبو حامد محمَّد الغزالي (توفي 505هـ/1111م) وابن تُومرت (توفي 524هـ/1130م) ملك المغرب الذي أسس دولة الموحدين في الأندلس.
وقد سمي جبل قاسيون بجبل الصالحين لكثرة ما نزل فيه من الأولياء والعلماء، وكذلك فإنَّ سفح هذا الجبل لا يزال يسمى بالصالحية وهي المنطقة الوسطى منه. والكثير من مناطق الشام لا تزال تسمى على أسماء من سكنها من الأولياء مثل منطقة محي الدين التي فيها جامع الشيخ محي الدين ومقامه، ومنطقة مولانا خالد التي تحوي مقام الشيخ خالد النقشبندي.
دخل الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي دمشق لأول مرة سنة 608/1211 حيث كان متجهاً من قونية إلى الحج، لكنّه لم يسكنها حتى سنة 621 �حيث قضى فيها السنوات السبعة عشر الأخيرة من عمره. وجد الشيخ محي الدين الأمن والراحة والاستقرار خاصة وأن له بها الكثير من الأصدقاء والمحبين ومنهم من له مكانة اجتماعية عالية كعائلة بني الزكي الذين استضافوه وقدموا له الرعاية واحتفوا به أشد الاحتفاء. ففي دمشق كان لابن العربي بيت كان يجتمع به حوله التلاميذ والمريدون ليقرأ عليهم كتبه ويلقي عليهم الدروس بالإضافة إلى انشغاله بالكتابة من غير ملل ولا انقطاع حتى آخر نفَس من حياته. وفي هذه المرحلة من حياته الذاخرة، أصدر الشيخ محي الدين اثنين من أهم كتبه بل من أهم كتب التاريخ البشري على الإطلاق، وهما كتاب "فصوص الحكم" وكتاب "الفتوحات المكية"، بالإضافة إلى مجموعة كتب أخرى.
عندما استقر ابن العربي في دمشق كانت تحت حكم الملوك الأيوبيين من عائلة صلاح الدين الأيوبي، وقد بدأ ملكهم لدمشق من بعد صلاح الدين الذي توفي بعد فتحه للقدس بستة سنوات سنة 589/1193 وترك ستة عشر ولداً بالإضافة إلى إخوته وأبناء إخوته، فتنازعوا فيما بينهم على الملك وقامت الحروب حتى انتهت بتقسيم البلاد إلى ثلاثة ممالك: دمشق وحلب ومصر. فأخذ الابن الأكبر لصلاح الدين، واسمه نور الدين، دمشق ولُقّب بالملك الأفضل، وأخذ أبو الفتح حلب وسورية الغربية ولُقّب بالملك الظاهر غياث الدين، الذي لقي عنده الشيخ محي الدين ابن العربي حظواً كبيرا. أما مصر فكانت من نصيب عماد الدين عثمان الذي لُقّب بالملك العزيز. بعد ذلك توالى على حكم دمشق عدد من الملوك الأيوبيين حتى حروب المغول سنة 658/1260 وبداية حكم المماليك.
استمرَّت فترة حكم الملك الأفضل نور الدين لدمشق منذ سنة 582/1186، حيث كان أميراً عليها قبل وفاة صلاح الدين، إلى أن جاء بعده الملك العادل الأول سيف الدين في سنة 592/1196 واستمر حتى 615/1218، فجاء بعده الملك المعظم شرف الدين، الذي كان يحكم في السنوات الأولى من فترة إقامة الشيخ محي الدين ابن العربي في دمشق حتى سنة 624/1227 حيث انتقل الحكم إلى الملك الناصر صلاح الدين داود الذي استمر لمدة سنتين وتولى بعده الملك الأشرف الأول مظفر الدين حتى سنة 634/1237. بعد ذلك توالى عدد من الملوك ولم يستقر الملك طويلا لواحد منهم، فتولى الملك الصالح عماد الدين، للمرة الأولى، واستمر سنة حتى 635/1238 ثم تولى الملك الكامل الأول ناصر الدين، ثم في نفس السنة تولى الملك العادل الثاني سيف الدين، وبعد سنة انتقل المُلك إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، للمرة الأولى، ثم عاد من جديد بعد سنة إلى الملك الصالح عماد الدين، الذي بقي في الحكم حتى سنة 643/1245 ثم تولى بعده الملك الصالح نجم الدين أيوب، للمرة الثانية، ودام حكمه أربعة سنوات ألحقت بعدها الدولة الأيوبية في دمشق بالدولة الأيوبية في مصر تحت حكم الملك المعظم توران شاه لمدة سنة تسلم بعدها الملك الناصر صلاح الدين الثاني حتى دخل المغول دمشق سنة 658/1260، وبدأ بعدها حكم المماليك.
بالإضافة إلى توفر الأمن والاستقرار في دمشق أكثر من غيرها في ذلك الوقت، وكونه كانت ملاذاً آمناً للجميع من غير خوف من تمييز أو اضطهاد، فقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في فضل دمشق وتفضيل السكنى فيها. وقد ذكر ذلك الشيخ محي الدين في وصاياه فقال: "وإن قدرت أن تسكن بالشام فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثبت عنه أنه قال عليكم بالشام فإنها خيرة الله من أرضه وإليها يجتبي خيرته من عباده." ووردت أحاديث أخرى كثيرة في تفضيل الشام على غيرها من البقاع، فأهل الشام سوط الله تعالى في الأرض، والأبدال في أهل الشام، والشام صفوة الله من بلاده، إليه يجتبي صفوته من عباده، وإليها ينتقل عمود الإيمان، وإذا وقعت الفتن فالأمن بالشام. وقد أفرد الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد خمسة أبواب في فضائل الشام، وذكر فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك.
ولم يكن الشيخ محي الدين هو الوحيد الذي قدم من المغرب العربي واستقر في دمشق، بل كان هناك عدد كبير من المغاربة والأندلسيين الذي قصدوا دمشق إما للتعليم أو للمعيشة، وقد كان للكثير منهم مكانة اجتماعية مرموقة.
يقول الشيخ محي الدين إنه أوّل ما دخل إلى الشام وجد في نفسه حبّاً مجهولاً ل يعرف سببه ولا متعلَّقه، وذلك أنَّ النفوس لها استشراف على الغيب فتعشق شيئاً أو شخصاً لم تره قط في الواقع، ثم تراه بعد وقت فتتعلق به وتعرف أنَّ الحبَّ الذي كانت تُكِنُّه هو لهذا الشخص أو لهذا الشيء وهي لا تدري.
فيقول الشيخ محي الدين إن ذلك من ألطف ما وجده في الحبِّ وهو أن تجد عشقاً مفرطاً وهوىً وشوقاً مقلقاً وغراماً ونحولاً وامتناعَ نومٍ ولذةٍ بطعام ولا تدري فيمن ولا بمن، ولا يتعيّن لك محبوبك. ثم بعد ذلك بالاتفاق إما يبدو لك تجلّ في كشف فيتعلق ذلك الحبُّ به أو ترى شخصاً فيتعلق ذلك الوجدُ الذي تجده به عند رؤيته فتعلم أن ذلك كان محبوبك وأنت لا تشعر، أو يُذكر لك شخص فتجد الميل إليه بذلك الهوى الذي عندك فتعلم أنه صاحبك.
ويقول الشيخ محي الدين إن هذا من أخفى دقائق استشراف النفوس على الأشياء من خلف حجاب الغيب؛ فتجهل حالها ولا تدري بمن هامت ولا فيمن هامت ولا ما هيّمها. ثم يقول الشيخ الأكبر إن ذلك هو سبب القبض والبسط الذي يجده الإنسان في نفوسه ولا يعرف له سبباً، فبعد ذلك يأتيه ما يحزنه فيعرف أن ذلك القبض كان لهذا الأمر، أو يأتيه م يسرّه فيعرف أن ذلك البسط كان لهذا الأمر؛ وذلك كلّه من قبيل الاستشراف على الأمور من قبل تكوينها في تعلق الحواس الظاهرة وهي مقدمات التكوين.
فكان الشيخ محي الدين يُكنّ في نفسه حبًّا عميقاً للشام وما فيها حيث يقول إنه وجد ميلاً مجهولاً مدة طويلة لحقيقة إلهية متخيَّلةٍ في صورة جسدية، فقال يخاطبه في ذلك بالحال ولسانه:
ولما دخلت الشام خولطتُ في عقلي |
|
فلم أرَ قبلي في الهوى عاشقاً مثلي |
ثمّ في بقيّة القصيدة ألغز الشيخ محي الدين اسم حبيبه ولم يصرّح به لأنّه قال إنَّ هذا من العلم المضاف إلى البُخل؛ أي الذي لا يجوز التصريح به، ولكنّه أعطى بعض المفاتيح التي تعتمد على أسرار الحروف التي ذكرها في الباب الثاني من الفتوحات المكية ببعض التفصيل وكذلك في كتب أخرى أشار إليها مثل كتاب "المبادئ والغايات فيم تحوي عليه حروف المعجم من العجائب والآيات"، وأغلب الظنِّ أنَّه يشير إلى المهدي ومكانة دمشق وأهلها حين ينزل عيسى عليه السلام.
تشير الكثير من المراجع أن الشيخ محي الدين قد وجد في دمشق احتفاءً كبيراً من قبل عائلة بني الزكي الذين اشتهروا بمنصب قاضي القضاة فتوارثوه لفترات طويلة بدءً من محي الدين ابن الزكي الذي كان أوَّل خطيب يخطب الجمعة في القدس بعد فتحها مباشرة على يد صلاح الدين الأيوبي الذي ولاّه منصب قاضي القضاة في حلب ودمشق، وكان هذ القاضي أيضاً هو الذي صلى بالناس على جنازة صلاح الدين لما توفي سنة 589 للهجرة. وقد خصصوا له معاشاً، وكانوا يحضرون دروسه، حتى إنه لما توفي رحمه الله دفنوه في تربتهم رغم أنه لا ينتمي إلى عائلتهم، فزادت شهرتهم به حتى إن الكثير من المؤرخين الذين كتبوا سير الرجال أصبحوا يؤرخون وفاتهم ومكان دفنهم فيقولون مثلا "ودفن في تربة بني الزكي قرب مقام الشيخ محي الدين".
من الواضح أنه بمجرّد استقرار الشيخ محي الدين في دمشق، بدء نشاطه التدريسي يزيد بشكل واضح وبدأ عدد المريدين حوله يزيد، علماً أنه ما يزال يتابع تأليفه لكتاب الفتوحات المكية الذي سينتهي من طبعته الأولى بعد بضع سنوات.
ففي سنة 621 قرأ الشيخ محي الدين على الأقل ثمانية من كتبه على مريديه؛ منه كتاب اليقين الذي قرأه عليه في منزله بدمشق أيوب بن بدر بن منصور المقري، وكتاب "المقصد الأسمى" قرأه عليه بالمسجد الكبير (الأموي) أيضاً أيوب بن بدر بن منصور المقري، وكذلك كتاب "الميم والواو والنون" قرأه أيوب ابن بدر أيضاً في منزل المؤلف وكان المستمعون إبراهيم بن محمد بن أحمد القرطبي وإبراهيم بن عمرو بن عبد العزيز القرشي، وأيضاً كذلك كتاب " مفاتح الغيوب"، وكتاب "الحق".
وفي دمشق كتب الشيخ محي الدين كتاب فصوص الحكم سنة 627/1229، ويعدّ هذا الكتاب بالنسبة إلى كتب الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي بمثابة التاج على رأس الملك، والفتوحات المكية هي الجسم، والكتب الأخرى هي الأطراف. فرغم صغر حجمه، ورغم محدودية الموضوعات التي يطرحها، إذا ما قورن بالفتوحات المكية مثلا، فإن هذا الكتاب بحرٌ عميق تستقر في قعره اللآلئ والجواهر، وفضاءٌ رحيبٌ تسبح فيه النجوم الزواهر.
ومع أنَّ الشيخ محي الدين بدأ تأليف كتاب الفتوحات المكية في مكة المكرّمة في أوّل زيارة يزورها في سنة 598، إلا أنَّ الطبعة الأولى صدرت في دمشق سنة 629/1231، ثم أعاد كتابته مرة أخرى في الفترة بين سنة 632/1234 إلى 636/1238 حيث أضاف وحذف وعدّل على هذه النسخة الأولى.
وفي هذه السنة في دمشق يذكر الشيخ محي الدين أنه رأى رؤيا تبشرّه بأنه سيكون له ألف ولد روحي. وفيها أيضاً كتب واحدة من الرسائل المهمة التي حفظت لنا جزءا من أسماء كتب الشيخ محي الدين وهي الإجازة التي كتبها للملك المظفر بهاء الدين غازي ابن الملك العادل الأيوبي وذكر فيها العديد من أشياخه بالإضافة إلى حوالي 290 مصنف من مصنفاته.
ومن المؤلفات الجليلة التي كتبها الشيخ في هذه الفترة "الديوان الكبير" وهو ديوان شعر صوفي يتضمن مئات القصائد، بالإضافة إلى ذكر بعض القصص والمبشرات التي رآها الشيخ محي الدين قبل ذلك التاريخ. وقد طبع هذا الدين في القاهرة سنة 1270/1854 ثم طبع طبعات حديثة كثيرة، كما توجد له بعض الشروحات، ولكن الحقيقة أنّ هذه الطبعات ناقصة ويوجد الآن مخطوطات للديوان تحتوي على المئات من القصائد التي تُنشر من قبل.
بعد حوالي ثمان وسبعين سنة (هجرية) من الهجرة والعبادة والعمل والتدريس والتأليف والترحال، وبعد أن قطع ما يزيد عن خمس وعشرين ألف ميل (أي ما يعادل دورة واحدة حول الكرة الأرضية) من الفيافي والسهول والجبال، وبعد أن أدى الشيخ أسمى رسالة في نقل تجربته الروحية الفريدة التي كانت وستكون مثالا للأجيال من النساء والرجال، عرجت روح ابن العربي الطاهرة إلى بارئها، كما رجعت الأوصال إلى ترابها ومائها. ولكنّ ذكره ما زالت تتعطر بطيبه النفوس، وبحار علومه ما زالت تجول في عرضها وتغوص في أعماقها العقول والقلوب والأسرار.
ففي ليلة يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة 638 (الموافق 9 تشرين الثاني نوفمبر 1240 للميلاد) توفي الشيخ محي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي عن عمر يقارب الثمانية والسبعين سنة قمرية (سبع وسبعين سنة وسبعة شهور وخمسة أيام) وهو يزيد عن الخمس والسبعين سنة شمسية (خمس وسبعون سنة وثلاثة شهور واثني عشر يوما)، وكانت وفاته في دار القاضي محي الدين ابن الزكي، وغسله الجمال ابن عبد الخالق ومحي الدين، وكان عماد الدين ابن النحاس يصب عليه الماء، وحُمل إلى جبل قاسيون ودُفن رحمه الله تعالى بتربة بني الزكي في سفح الجبل، ويوجد قبره الآن في طرف المسجد الذي بناه السلطان سليم العثماني حين فتح دمشق سنة 922/1516، وتسمى المنطقة التي فيه ضريحه باسم منطقة أو حيّ الشيخ محي الدين.